أحمد الخطيب – خاص:
في زوايا تعز العتيقة، ثمة حكاية لا تُحكى في الكتب ولا تُدرّس في المناهج، وإنما تُعاش يومياً بين أحجار البيوت القديمة وضوضاء الأطفال في الحواري الضيقة، حكاية أناس اختاروا أن يكونوا جيراناً قبل أن يكونوا أي شيء آخر.
عندما تمشي في شوارع المدينة القديمة، لن تجد لافتات تُعلن عن الانتماءات أو تُذكّر بالفروقات؛ فالناس هنا يعرفون بعضهم بالأسماء، بالوجوه المألوفة، بالقصص المتداولة من جيل لآخر، أبو أحمد يعرف أن جاره علي يحتاج للمساعدة عندما تمرض زوجته، وفاطمة تعلم تماماً متى تطبخ طبقاً إضافياً لجيرانها الجدد.
لا أحد هنا يسأل عن أصولك قبل أن يقدم لك كوب شاي، لا أحد يستفسر عن انتماءاتك قبل أن يشاركك الحديث عن المطر الذي هطل بالأمس أو عن أسعار الخضار في السوق، الحياة تسير ببساطة تجعلك تنسى أن هناك عالماً خارج هذه الحواري يتقاتل على أشياء تبدو هنا غير مهمة.
طوال سنوات الحرب الطويلة، كان يمكن أن تنهار هذه العلاقات، كان يمكن للخوف أن ينتصر، وللشكوك أن تنمو كالأعشاب الضارة بين الجيران، لكن شيئاً من هذا لم يحدث. بدلاً من ذلك، اكتشف الناس أن جارهم المختلف عنهم ليس عدواً، بل هو من يقاسمهم نفس الهموم، انقطاع الكهرباء، انعدام المياه، غلاء الأسعار، وأحياناً نفس الأحلام البسيطة لأطفال ينامون بأمان.
هناك قصص صغيرة يحتفظ بها أهل المدينة في ذاكرتهم، قصص عن مفاتيح بيوت تُسلّم للجيران وقت السفر دون تردد، عن أطفال يلعبون معاً غير عابئين بما يميز عائلاتهم، عن نساء يتشاركن الطبخ في الأعياد وكأنهن أخوات، هذه التفاصيل البسيطة هي ما يصنع الفارق الحقيقي.
المساجد القديمة في المدينة شاهدة على هذا كله، مسجد المظفر، مسجد الأشرفية، وغيرها من المعالم التي تحتضن الجميع، هذه ليست مجرد مبانٍ أثرية يأتي السياح لتصويرها، بل هي جزء من نسيج المدينة، أماكن يجتمع فيها الناس ويتعارفون ويتقاربون.
ما يحدث في المدينة القديمة بتعز ليس معجزة ولا استثناء، إنه ببساطة ما يحدث عندما يقرر الناس أن إنسانيتهم المشتركة أهم من اختلافاتهم، عندما يختارون أن يروا في الآخر جاراً وصديقاً محتملاً وليس خصماً أو غريباً.
هؤلاء الناس لم يقرؤوا كتباً في التسامح ولم يحضروا دورات في التعايش المجتمعي، هم فقط عاشوا معاً طويلاً بما يكفي ليعرفوا أن الحياة أسهل وأجمل عندما تكون مشتركة، تعلموا أن الاختلاف لا يعني العداء، وأن التنوع يمكن أن يكون مصدر قوة وليس ضعف.
اليوم، وبينما يبحث اليمن عن طريق للخروج من دوامة الصراع، تقدم له المدينة القديمة في تعز درساً بسيطاً وعملياً بأن الحل ليس في السياسة الكبيرة أو الخطابات الرنانة، بل في قرارات صغيرة يتخذها أناس عاديون كل يوم، قرارات باختيار الجيرة على العداوة، والتفاهم على الصراع، والإنسانية على كل ما سواها.


